لمعتقدات العبرانية أو اليهودي
ةيتميز اليهود باعتبارهم الشعب الوحيد في العالم، الذي حافظ على وحدته القومية على مر العصور، وذلك بالرغم من كل ما تعرض له من حملات الاقتلاع والتشتيت ومحاولات الاستئصال. وقد تحققت هذه الوحدة بالخصوص، بالإلتفاف حول كتاب سماوي هو التوراة التي تنسب إلى النبي موسى، وما أضيف إليها من كتب وأسفار أخرى ألفها وجمعها الرهبان والأنبياء الذين جاؤوا بعده لاحقا، تحت إسم الميشنا.
فالتاريخ اليهودي كما تحكيه النصوص العبرية، يعود حتى القرن الثامن عشر ق.م. وإذا كانت النقوش الأثرية المكتشفة مؤخرا في شكل ألواح طينية تعود للبابليين أو الأشوريين أو الكنعانيين ، أو في معابد وبنايات الفراعنة، تؤكد حقيقة وجود بعض الأسماء والأماكن التي ذكرتها التوراة، فإن أحداثا عديدة من التي أوردتها هذه الأخيرة لا يوجد هناك أي شيء لحد الآن، يثبت حدوثها فعلا في التاريخ. فالرواية العبرية تحكي أن أصل العبرانيين أو العبريين، الإسم القديم لليهود، يرجع إلى إبراهيم بن ناحور الذي عاش في العراق في عهد الملك البابلي النمرود حوالي القرن الثامن عشر ق.م. ومن هناك هاجر إلى بلاد كنعان حيث توجد لبنان وفلسطين حاليا، بعد أن وعده إلهه بمنحها له ولعشيرته. و يعتقد أن العبرانيين الذين ورد اسمهم في النقوش القديمة تحت اسم عبيرو، هم من قبائل الرعاة السامية التي كانت تنتقل على طول الخط ما بين العراق ومصر، سواء للبحث عن مراعي جديدة أو للتجارة أو للإغارة على طرق القوافل و المناطق المجاورة. وفي هذا الإطار يمكن فهم مجيء إبراهيم حتى مصر مع الحملة التي قام بها الهكسوس على هذه الأخيرة، ثم بعده يوسف وإخوانه الآخرين. كما يعتقد أن موسى الذي ظهر في مصر حوالي القرن الثاني عشر ق.م، ينتمي إلى إحدى القبائل العبرانية التي استقرت في مصر منذ ذلك العهد. وإذا كان اليهود قد عاشوا مرحلة مشرقة في علاقتهم بالفراعنة في أول الأمر، فإن وضعهم الاجتماعي قد تدهور لاحقا مما جعلهم يثورون ويفرون من مصر تحت قيادة موسى، الذي قادهم نحو فلسطين، الأرض التي سبق وأن وعد بها الله جدهم إبراهيم وأبناءه من اسحق ويعقوب.
بعد أن انتصر اليهود على الكنعانيين، السكان الأصليين في المنطقة، وعلى الفلستينيين كما في قصة شامشون ودليلة، الذين يعتقد أنهم جاؤوا من جزر شرق المتوسط ، بسطوا سيطرتهم تدريجيا على المنطقة إلى أن أقاموا دولتهم الخاصة تحت حكم القضاة أولا، ثم حكم الملك شاوول. وبعده جاء داوود الذي شيد مدينة أورشليم أو مدينة السلام أو القدس. ثم جاء ابنه سليمان حوالي القرن التاسع ق.م، والذي بلغت الدولة العبرية في عهده أوجها أو مرحلة العصر الذهبي كما يظهر ذلك مثلا في علاقة هذا الأخير مع بلقيس ملكة سبأ اليمنية، و هو ما لم يعرف له اليهود مثيلا في تاريخهم حتى قيام دولة إسرائيل في العصر الحالي. بعد موت سليمان انقسمت الدولة إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال، والتي كادت أن تذوب وتندمج في المجتمع الكنعاني، أو في الدولة الأشورية القوية آنذاك في بلاد الشام، ثم مملكة يهودا في الجنوب التي حافظت على استقلالها وعلى المعتقدات اليهودية بمساعدة الأنبياء ورهبان الهيكل الكبير الذي سبق وأن بناه سليمان. غير أنه في سنة 597 ق.م، قام الملك البابلي نبوخذ ناصر بغزو أورشليم وتدمير الهيكل وسبي اليهود ونقلهم إلى بابل في العراق، واضعا بذلك الحد للدولة اليهودية. غير أنه لحسن حظ اليهود، سرعان ما انهزم البابليون بدورهم أمام الفرس الأخمينيين، الذين استولوا على بابل سنة 539 ق.م. ولأن هؤلاء الأخيرين كانوا ينتهجون سياسة التسامح الديني في تعاملهم مع الشعوب التي يستعمرونها، فقد سمحوا لليهود بالعودة إلى أرضهم بفلسطين وإعادة بناء الهيكل.
لم يرجع اليهود المنفيون كلهم إلى موطنهم الأصلي، بل أن جالية كبيرة منهم بقيت في العراق، وهي التي كان لها الفضل في الحفاظ على التراث اليهودي مصونا، خاصة أمام محاولات الاجتثاث المتكررة أو الإدماج القسري التي تعرض لها اليهود في فلسطين من طرف الإغريق أولا ثم من طرف الرومان. ولهذه الجالية يعود الفضل أيضا في جمع وتدوين جل النصوص الدينية القديمة التي كانت متداولة شفويا، أو ما يقابل السنة عند المسلمين، باستثناء وثيقة الوصايا العشر أو التوراة التي يعتقد أنها دونت منذ عهد موسى. ولصدفة التاريخ ، فإن منطقة العراق هي نفسها التي ستحتضن لاحقا تدوين جل التراث العربي والإسلامي لأول مرة في عهد الدولة العباسية.
لم يستطع اليهود العائدون من المنفى البابلي إلى فلسطين، إعادة الدولة اليهودية إلى سالف مجدها كما في عهد داوود وسليمان. وإذا كان للنزاعات والحروب الداخلية نصيب في ذلك، فإن وصول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة سن 323 ق.م، سيلعب دورا حاسما في الحد من طموح اليهود إلى إقامة دولتهم المستقلة. وبالرغم من أن هذا الأخير قد أظهر تسامحا كبيرا مع الديانة اليهودية، ومع معتقدات كل الشعوب الأخرى التي واجهها في طريقه، إلا أن التصادم ما بين نمط التفكير الإغريقي ونمط التفكير اليهودي لم يمر من دون مشاكل. فقد أدى ذلك إلى انقسام اليهود فيما بينهم إلى عدة طوائف ومذاهب، أبرزها طائفة الحاصيديين hassidiques الذين تأثروا كثيرا بالحضارة الهيلينية، ودعوا إلى التعاون مع المستعمر الإغريقي ثم الروماني. وكان من نتائج هذا التعاون إقامة الدولة الأسمونية asmoniens تحت حماية الحكام الإغريق، ثم بالخصوص تنصيب الملك اليهودي هيرود العظيم سنة 37 ق.م، من طرف الرومان، وهو الذي يحمله المسيحيون مسؤولية صلب المسيح. ولكن لأن اليهود، كانوا من أكبر المتعصبين لديانتهم ولهويتهم، والأكثر استعصاءا على الإدماج والاحتواء، فإن المستعمر الروماني لم يستسغ ذلك وقام سنة 70 ميلادية، بتخريب أورشليم وهدم الهيكل للمرة الثانية، وتهجير كل اليهود الموجودين في المنطقة إلى أطراف الإمبراطورية. ومنذ ذلك العهد دخل اليهود في مرحلة الشتات أو الدياسبورا، التي دامت إلى حدود سنة 1948.
لكن اليهود على قلة عددهم، وضآلة دولتهم أمام ضخامة الإمبراطوريات التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط، قد تركوا بصماتهم الثقافية مطبوعة على كل التاريخ الثقافي اللاحق للبشرية . فإليهم يعود الفضل في احتضان ورعاية الفكرة الدينية حول التوحيد، قبل أن يقتبسها عنهم المسيحيون ثم المسلمون، ويعممونها في سائر أرجاء المعمورة.